ماري أسعد التي عرفتها

By Vivian Fouad

فيفيان فؤاد   عرفت ماري أسعد وصادقتها سنوات طويلة. وامتدت حواراتنا إلى كافة الموضوعات والقضايا المتعلقة بالتنمية والسياسة والدين والعلاقات الإنسانية، ولم يقف الاختلاف الجيلي عائقاً أمام هذه الصداقة.  هي تنتمي إلى جيل جدتي ومع ذلك كنت أناديها "ماري" دون أي ألقاب، كما كان معظم المحبين لها ينادونها.  تعلمت من هذه العلاقة أن الصداقة وتلاقي الأرواح والأفكار تستطيع أن تتجاوز عامل السن والخلفيات الاجتماعية والثقافية بل أنها تكون أمتع وأعمق متى تجاوزت المعايير التقليدية.  وأن الصداقة ونقل الخبرات بين الأجيال المختلفة هي علامة صحة وحيوية في المجتمع. تعلمت أيضا أن ثورية الأفكار والمواقف ليست حكراً على الشباب. فانحياز هذه السيدة للعدالة الاجتماعية بكافة أبعادها ولأفكار تحرير المرأة والرجل من قهر المجتمع الذكوري وللأفكار الدينية المنفتحة والمتسامحة، تعكس ثورية وشبابية قد لا تجدها عند بعض الشباب والشابات.     قضيتان شغلتا قلب وعقل ماري أسعد طول حياتها هما: أولا: الفقر بكل أبعاده الاقتصادية والصحية والتعليمية. ثانيا: الثقافة  الذكورية المتجذرة في كافة مؤسسات المجتمع والدين والأسرة، والتي تظلم وتقهر النساء وأحياناً الرجال أيضاً، وكانت تعتبر ختان الإناث هو الممارسة الرمزية الأكثر تجسيداً لهذه الثقافة.     أتذكر ماري دائما عندما كانت تقول لي: "الرجال غلابه جدا يا فيفيان وإحنا الستات أقوى منهم"...وعندما كنت أسألها في استغراب: "لماذا؟"؛... ترد: "لأن التربية الذكورية للولد منذ الطفولة  تجعله يسعى دائماً ليكون الأقوى والأكثر قدرة مادياً واجتماعياُ وجنسياً. فاذا لم يستطع أن يحقق كل هذه الصفات الذكورية لأي سبب، يشعر بالضعف الشديد وعدم الثقة".   أحست ماري أسعد منذ طفولتها بأشكال متعددة من التمييز ضد المرأة. فقد كانت عائلتها التي تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى القاهرية لديها ثلاث بنات وتتمنى أن يكون المولود الرابع ذكراً. فجاءت ماري أسعد في 16 أكتوبر  1922، لتكون البنت الرابعة ذات الجسد النحيل القصير والبشرة السمراء. ومن سوء الحظ توفى جدها وقت ميلادها. ومن أكثر الأشياء التي أشعرت ماري بالإهمال والتمييز ضدها نظراً لكل هذه العوامل السابقة ان أمها قررت عدم ختانها مثل باقي أخواتها البنات الأكبر منها.وكما كانت تحكي دائماً انها كانت تشعر في فترة الطفولة والمراهقة أنها أقل من قريناتها واخواتها لأنها غير
’’مُختنة‘‘، وكانت تعتقد أنها لن تتزوج لنفس هذا السبب.  وظلت تعتقد في هذه الفكرة إلى أن سافرت عام 1952 للمشاركة في مؤتمر حول قضايا المرأة في جنيف بسويسرا. وكانت مفاجأتها الكبرى عندما ناقشوا  موضوع ختان البنات في المؤتمر، واكتشفت أنها ممارسة عنيفة وتؤثر سلباَ على الصحة النفسية والجسدية للمرأة. رجعت من هذا المؤتمر وهي  ممتنة لأمها وتشكر الظروف التي جعلتها تهمل ختانها وترحمها من هذا العنف والألم المسمى ختان الإناث. ولتصبح بعد ذلك من أكبر الداعين لوقف هذه العادة السيئة.     في البداية تكلمت مع كل أصدقائها ودعمتهم بما لديها من معرفة علمية وطبية ودينية حتى يمتنعوا عن ختان بناتهم. وكانت دائما تفتخر بانها ساهمت في اقناع كثير من أصدقاءها ومعارفها وحماية بنات كثيرات عن طريق الحوار.    وتعكس القصة الشخصية لماري أسعد مدى تجذر ختان الإناث في ثقافة كافة الطبقات الاجتماعية- آنذاك- في منتصف القرن الماضي. وان تغيير العادات والتقاليد يلزمه جعل المعرفة متاحة لكافة فئات المجتمع دون تمييز، وتقوية الأصوات الشجاعة القادرة على رفض الانسياق وراء الضغط الاجتماعي للعادات والتقاليد. والعمل في نفس الوقت على تكوين ثقافة مجتمعية بديلة.  كرست ماري أسعد حياتها لقضية ختان الإناث. فقد اقتنعت منذ وقت مبكر بأن ممارسة ختان الإناث تمثل تجسيداً حقيقياً للثقافة الذكورية التي تسعى للسيطرة على أجساد النساء وانتهاك حقوقهن ليس فقط في السلامة الجسدية بل في الكرامة الإنسانية أيضاً. فكانت أول باحثة مصرية في العلوم الاجتماعية تجري دراسة عن الأسباب الاجتماعية والثقافية لاستمرار ختان الإناث في مصر في عام 1979. وعملت متطوعة كمنسقة لقوة العمل المدنية لمناهضة ختان الإناث التي تكونت عقب المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في عام 1994. وضمت في عضويتها مجموعة كبيرة من الجمعيات الأهلية والباحثين والمتخصصين في مجال حقوق المرأة.  لقد لعبت قوة العمل لمناهضة ختان الإناث في الفترة بين 1995 – 2002 دورا كبيراً في تغيير زاوية الرؤية لختان الإناث. وذلك ’’من منظور صحي وديني فقط إلى منظور حقوق المرأة والطفل، والمنهج الثقافي الاجتماعي‘‘.     في هذه الفترة لعبت ماري أسعد وزملاءها في قوة العمل دوراً محفزاً لوزارة الصحة في عدد من الفاعليات الخاصة بمناهضة ختان الإناث مثل: المطالبة المستمرة أن يصدر وزير الصحة قرارا يمنع الأطباء بشكل مطلق من إجراء ختان الإناث دون أي استثناءات. وإعداد دليل "لا لختان الإناث". والمشاركة في برنامج وطني لتدريب رجال الدين الإسلامي والمسيحي على موضوعات الصحة الإنجابية ومناهضة ختان الإناث.     وأتذكر جيداً في بداية عام 2002 عندما ذهبنا ماري أسعد ود. عز الدين عثمان أستاذ النساء والتوليد بجامعة المنصورة وكاتبة هذه السطور إلى مكتب السفيرة مشيرة خطاب الأمين العام للمجلس القومي للطفولة والأمومة ــ آنذاك ــ ودار الحوار حول كيفية بناء استراتيجيات مناسبة لإقناع الأسرة المصرية للتخلي عن ختان الإناث .    اتجهت رؤية "ماري" في هذه الفترة إلى ضرورة توفير الدعم السياسي المناسب لقضية ختان الإناث ووضعها على أجنده الحكومة والإعلام والمؤسسة التشريعية من أجل تحقيق التغيير الاجتماعي والثقافي المطلوب في هذه القضية.     وبدأنا الإعداد في صيف 2002 لأول برنامج حكومي يعمل بشكل صريح ومباشر على قضية ختان الإناث. وهو البرنامج الذي أُطلق عليه: "البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث بالمجلس القومي للطفولة والأمومة". التصور الأولي للبرنامج خرج من الاجتماعات المكثفة التي عقدت في منزل ماري بجاردن ستي، والتي ضمت ماري أسعد، ود. مجدي حلمي مدير برامج الصحة بجمعية كاريتاس مصر ونائب منسق قوة العمل لمناهضة ختان الإناث، ود. مواهب المويلحي الخبيرة في الصحة الإنجابية وعضو قوة العمل لمناهضة ختان الإناث، ود. دينا النجار خبيرة البرامج التنموية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكاتبة هذه السطور. ودخل البرنامج حيز التنفيذ في بداية عام 2003.    وإذا كان ختان الإناث قد شهد تطوراً كبيراً في السنوات الماضية؛ من حيث انخفاض معدلاته في الأجيال الشابة مقارنة بجيل الأمهات والجدات، وانتقاله من كونه عادة وعُرف حميد استمر آلاف السنين إلى أن يصبح جناية في القانون المصري، وتحريمه من قبل المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية بشكل قاطع، فإن الفضل في ذلك يرجع – في وجهة نظري – إلى عامل بشري مهم جداً، تمثل في حكمة وتواضع ورؤية ماري أسعد  لبناء نموذج للتنسيق والتعاون بين الجمعيات الأهلية والمجلس القومي للطفولة والأمومة. وشجاعة السفيرة مشيرة خطاب في التصدي للتحديات السياسية والإدارية والضغوط الاجتماعية التي واجهت تنفيذ البرنامج القومي لمناهضة ختان الإناث. ودأب وصبر وكفاءة أعضاء البرنامج القومي الذي استمر مدة تزيد عن 15 عاماً، واستطاع وضع القضية على قائمة الاهتمام المجتمعي والإعلامي وكافة أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقانونية.   اهتمت ماري أسعد أيضا ببرامج التنمية داخل الكنيسة، ودعمت نيافة الأنبا صموئيل أسقف الخدمات (1962-1981) في بناء برامج التنمية في أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية بالكنسية القبطية الارثوذكسية. وفي فترة لاحقة ( 1995- 1997) دعمت نيافة الأنبا يؤانس اسقف الخدمات لتطوير وإعادة بناء وصياغة رؤية ورسالة وبرامج  أسقفية الخدمات لصالح الفقراء والمهمشين.   وفي جنيف، كانت أول امرأة تتولى منصب نائب الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي في الفترة (1980- 1986). وخلال عملها بالمجلس أشرفت على بحث عالمي مهم بعنوان: "المرأة والدين والجنس: دراسات حول تأثير التعليم الديني على النساء" “Women & Religion & Sexuality: Studies on the Impact of Religious Teachings on Women”    أثبت هذا البحث ان الديانات العالمية الكبرى تشترك في تأثير الثقافة الذكورية المتأصلة تاريخياً واجتماعياً على التفسيرات الدينية التي تبرر أوضاع المرأة المتواضعة في الأسرة والمجتمع وتفوق أوضاع الرجل.     عملت ماري أسعد لسنوات طويلة مع العاملين في جمع القمامة وأسرهم بحي المقطم منذ ثمانينات القرن العشرين من خلال جمعية حماية البيئة، وقدمت نموذجاً متكاملاً للتنمية البشرية من مشروعات لتدوير القمامة والتوعية الصحية والتعليم ومشرعات للتنمية الاقتصادية للمرأة والأسرة. وأثبتت من خلال هذا النموذج أن الاهتمام بتنمية المرأة الصحية والتعليمية والاقتصادية يصب دائما في الارتقاء بالمستوى المعيشي والاجتماعي للأسرة، ومن ثم المجتمع بشكل عام.ماري أسعد التي عرفتها، سعت دوما إلى تطبيق مبادئها الفكرية في حياتها الشخصية والعملية لتحقيق التقارب بين القول والفعل.  وستظل من أهم المبادئ التي تعلمتها منها واختبرت حقيقتها وصدقها: أن المعرفة قوة. وأن بناء رأس المال الاجتماعي من العلاقات الاجتماعية والصداقات الحقيقية القائمة على الثقة والمحبة والمشاركة هي أعظم ما يمكن ان يمتلكه الإنسان  في هذه الحياة.